عانت وما تزال الأسواق المالية وكذلك الاقتصاد العالمي من شبح أزمة مصرفية، بعد انهيار بنك سيلكون فالي أحد أكبر البنوك الأمريكية في بداية شهر آذار المنصرم من عام 2023، وقد أدى ذلك إلى حالة من الارتباك على مستوى الاقتصاد العالمي، ذلك أن الجميع لا زال يتذكر تداعيات الأزمة المالية عام 2008 بعد انهيار بنك ليمان برزار.
الأمر الذي دفع عديد الحكومات والجهات الرقابية والإشرافية إلى التدخل السريع لاحتواء هذه الأزمة الحالية، خاصة بعد بدء العدوى بالانتشار إلى بنوك أخرى.
إلا أن هذه الأزمة لم تبدأ فجأة وإنما كان لها أسباب طويلة الأمد، كما أن آثارها لم تنتهي بعد، وعليه سنبحث فيما يلي في القصة الكاملة لانهيار بنك سيلكون فالي والأسباب التي أدت إلى هذا الانهيار وما تداعيات ذلك على القطاع المصرفي الأمريكي والعالمي وصولاً إلى آثارها على الأسواق المالية والاقتصاد العالمي في ظل المؤشرات الاقتصادية الصادرة.
أسباب انهيار بنك سيلكون فالي الأمريكي:
أفاق العالم خلال الأسبوع الثاني من شهر آذار من عام 2023 على خبر صادم لن يمر مرور الكرام، والمتمثل بانهيار بنك سيلون فالي أحد أكبر البنوك الأمريكية والذي يأتي في المرتبة 16 من حيث الحجم على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية.
حيث تبلغ قيمة أصول البنك حوالي 200 مليار دولار أمريكي، ويعتبر من البنوك الرائدة في تمويل قطاع التكنولوجية والشركات الناشئة، وكان لأزمة كوفيد 19 دور في تضاعف ودائع البنك أكثر من 4 أضعاف خلال 4 سنوات ففي 2017 كانت قيمة ودائعه 44 مليار دولار لتصل في نهاية عام 2021 إلى 189 مليار دولار أمريكي، في حين زادت التسهيلات الممنوحة للشركات الناشئة من 23 مليار دولار إلى 66 ملياراً.
ومما سبق نستطيع أن نستنتج مدى أهمية هذا البنك على مستوى القطاع المصرفي الأمريكي، ومدى الصدمة التي حلت نتيجة انهيار بنك سيلكون فالي.
يعتقد الكثير أن الأزمة بدأت عندما أعلن البنك للمستثمرين بأنه بحاجة إلى جمع 2.25 مليار دولار بهدف دعم ميزانيته العمومية، حيث شعر المودعون حينها بالخوف على ودائعهم، فبدأوا بعمليات سحب كبيرة وصلت إلى حوالي 42 مليار دولار في نهاية يوم الخميس 9/3/2023. وعند فشل عملية زيادة رأس المال، مع الأخذ بعين الاعتبار زيادة الطلب على سحب الودائع حدثت الكارثة وبدأت قصة انهيار بنك سيلكون فالي خلال 48 ساعة.
إلا أنه لفهم أسباب انهيار بنك سيلكون فالي علينا العودة إلى الفترة ما بين العام 2019 وحتى عام 2023، حيث كانت أسعار الفائدة في الولايات المتحدة حينها قريبة من الصفر تقريباً ولا تتجاوز 0.5% وذلك بهدف تحفيز الاقتصاد وزيادة الاستثمارات خاصة نتيجة جائحة كورونا.
ونظراً لما هو معروف أن أرباح أي بنك تحقق من الفروق بين الفائدة على الإقراض والفائدة على الإيداع، ونظراً للهامش الضعيف أو المعدم تقريباً، قرر البنك الاستثمار في استثمارات شبه معدومة المخاطر وذات عائد جيد، حيث عمل على الاستثمار في سندات الخزانة التي توفر عائداً حوالي 1.5%.
إلا أن المشكلة الحقيقية والأسباب التي أدت إلى انهيار بنك سيلكون فالي بدأت مع قرار الفيدرالي الأمريكي بزيادة أسعار الفائدة أكثر من مرة بواقع 25 نقطة في كل مرة، إلى أن وصلت أسعار الفائدة إلى 4.75% بعد 8 مرات رفع لأسعار الفائدة من قبل الفيدرالي، في محاولة منه لتخفيف الضغوط التضخمية الحاصلة في الاقتصاد الأمريكي والذي وصل إلى أعلى مستوياته حيث بلغ حوالي 8%.
إن هذه الإجراءات أدت إلى زيادة ضغوط السيولة لدى بنك سيلكون فالي، ذلك أنه يستثمر في سندات تعطي عائداً بمقدار 1.5% في حين أنه يدفع فوائد على الإيداعات 4.75%، الأمر الذي أدى إلى خسائر تبدها البنك.
وفي ذات الوقت ومع ارتفاع أسعار الفائدة والعلاقة العكسية بين أسعار الفائدة وأسعار السندات السوقية عند خصمها، فإن البنك في حال قرر بيع السندات التي بحوزته فإنه سيتكبد خسائر إضافية.
الأمر الذي تحقق فعلاً حيث قرر بيع سندات بقيمة 21 مليار دولار، متحملا خسارة قدرها نحو 1.8 مليار دولار في هذه العملية، ولاحقاً لإعلانه للمستثمرين حاجته إلى دعم ميزانيته بـ 2.25 مليار دولار من خلال طرح سندات للاكتتاب، ظهرت حالة من الذعر لدى المودعين ما دفعهم لحسب أموالهم، لتبدأ قصة انهيار بنك سيلكون فالي الذي لم يستطع تحمل حجم السحوبات هذه.
للمزيد حول انهيار SVB
تداعيات انهيار بنك سيلكون فالي:
بدأت كارثة انهيار بنك سيلكون فالي بفقدان سهمه (SVB Financial) نحو 60% من قيمته السوقية يوم الخميس، ولم تقف الخسائر عند هذا الحد، حيث تواصلت الخسائر ليفقد يوم الجمعة 70% من قيمته.
حيث أعلنت الجهات المنظمة للخدمات المصرفية في كاليفورنيا بوقف التداول على أسهمه مع الحجز على ودائع عملائه، ومع ودود فروع لبنك سيلكون فالي في كل من الصين والدنمارك وألمانيا والهند وإسرائيل والسويد، فقد بدأت أزمة انهيار بنك سيلكون فالي تأخذ منحى متصاعد، وبدأت ظاهرة التزاحم المصرفي وانتشار العدوى التي وصلت إلى بنك سيغنتشر الذي أفلس أيضاً وتم ضمان ودائعه، وتصاعدت المخاوف من انتشار العدوى إلى باقي القطاع المصرفي.
ومن جهة أخرى بدأت تداعيات انهيار بنك سيلكون فالي ترخي بظلالها على الأسواق المالية والبورصات في ظل انخفاض أسعار القطاعات المالية عموماً والمصرفية خصوصاً حيث فقدت معظم أسهم البنوك جزءً من قيمتها.
من جهة أخرى وكون بنك سيلكون فالي متخصص بتمويل الشركات التكنولوجية والشركات الناشئة، والتي تحتفظ بودائعها لديه، كان لانهيار بنك سيلكون فالي آثار مدمرة على هذه الشركات، فعلى سبيل المثال كشف الرئيس التنفيذي لشركة “Lingumi” (توبي ماثر)، والتي تعتبر من الشركات الناشئة للبرمجيات التعليمية، بأن شركته تحتفظ بـ 85% من أموالها في بنك سيلكون فالي، وقد حاول نقل بعض حساباته، ولكن حتى مساء السبت 11/3/2023، لم تفلح مساعيه في ذلك، حيث صرح: “هذه مسألة حياة أو موت بالنسبة لنا”.
وكذلك الأمر بالنسبة لجاك أوميرا، صاحب ومؤسس شركة “Ocher Bio” وهي إحدى الشركات الناشئة في علم الجينوم بلندن، عطلة نهاية الأسبوع في محاولة، دون جدوى، لنقل الودائع من بنك سيلكون فالي، حيث أعلن أنه: “إذا لم يكن هناك تدخل، فقد يقضي حقاً على جيل من رواد الأعمال.
كما شهدت الأسواق المالية أيضاً تراجعاً في أسعار أسهم الشركات الناشئة الأمر الذي يهدد بانتقال أزمة انهيار بنك سيلكون فالي من أزمة مصرفية إلى أزمة مالية، في ظل انتقال الأزمة المصرفية إلى أوروبا والتخوف من انتشار العدوى في كل أرجاء العالم.
المؤشرات الاقتصادية العالمية بعد انهيار نبك سيلكون فالي:
في ظل الأزمة المصرفية الحاصلة وانهيار بنك سيلكون فالي وبنك سيغنتشر، بدأت المؤشرات والأسعار في الأسواق المالية وسوق العملات في التخبط، حيث شهدنا انخفاض مؤشر الدولار الأمريكي بشكل مخيف وارتفاع أسعار الذهب إلى مستويات قياسية تجاوزت 2000 دولار للأوقية، كما انعكس ذلك في أسعار النفط الخام والعقود الآجلة وخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأزمة الروسية الأوكرانية، وأن روسيا هي ثالث أكبر مصدّر للنفط.
وفي هذا الصدد صدرت بيانات مخزون النفط الأمريكي الخام يوم الأربعاء 29/3/2023 لتسجل انخفاضاً هائلاً بأكثر من 7 مليون برميل، في حين كانت التوقعات تحوم حول ارتفاع في حدود 92 ألف برميل فقط، ما يشير إلى ارتفاع حجم الطلب على النفط ومؤشرات على ارتفاع أسعاره في قادم الأيام.
كما صدرت بيانات الناتج الإجمالي المحلي الأمريكي الربع سنوية يوم الخميس 30/3/2023، وسجلت نموًا بنسبة 2.6%، فيما كان من المتوقع أن تسجل نموًا بنسبة 2.7%، في حين كانت القيمة السابقة لهذه البيانات تظهر نمواً قدره 3.2%.
أما بالنسبة لأسعار الناتج المحلي الأمريكي فقد سجلت ارتفاعًا بنسبة 3.9%، وفقاً لتوقعات الخبراء، بينما سجلت في القراءة السابقة 4.4%.
وسجلت إعانات البطالة 198 ألف طلب، أعلى من توقعات الخبراء الذين توقعوا 196 ألفًا. خاصة أنها قد سجلت 191 ألفًا الأسبوع قبل الماضي.
وبذلك ارتفع متوسط طلبات إعانة البطالة في 4 أسابيع إلى 198.25 ألف، بعد أن سجل الأسبوع قبل الماضي 196.25 ألفًا.
كما أن مؤشر ثقة المستهلك شهد تراجعاً في التقديرات حيث وصل في نهاية شباط 2023 إلى مستويات 102.9 في حين أن المتوقع أن يصل إلى 108.5 ما يعني تراجعاً كبيراً بعد أن كان قد حقق 107.1 في نهاية كانون الثاني من عام 2023.
الأمر الذي يشير إلى تخوف المستهلك الأمريكي من الأخبار التي تشير إلى اتجاه الاقتصاد الأمريكي نحو الركود وخاصة في ظل الأزمة المالية الحاصلة، وعلى الرغم من التطمينات الصادرة من نائب رئيس الفدرالي الأمريكي بأن الأمور لم تخرج عن السيطرة بعد.
وعليه علينا أن ندرك من كل ما سبق أن هناك حالة من التخوف حول دخول الاقتصاد العالمي في حالة من الركود، وخاصة مع توجّه الفيدرالي الأمريكي إلى رفع سعر الفائدة بواقع 25 نقطة في الاجتماع المزمع عقده في شهر أيار القادم، ما قد يؤدي إلى زيادة احتمالات الركود.
اقرأ أيضاً : البنوك الإلكترونية وأهميتها | هل ستأخذ دور البنوك على أرض الواقع؟
ارتدادات انهيار بنك سيلكون فالي على الساحة المصرفية الأوروبية:
شهدت أسعار أسهم البنوك الأوربية عامة تراجعاً في أسعارها لاحقاً لانهيار بنك سيلكون فالي، حيث تراجع سعر سهم بنك كردي سويس السويسري بنحو 30% وبات أحد البنوك الأوروبية المهددة بالإفلاس كأحد أهم الارتدادات للأزمة المصرفية على الساحة الأوروبية.
حيث يعتبر بنك كردي سويس أحد أكبر البنوك السويسرية والذي تأسس عام 1856، وفي ظل هذه المؤشرات ظهرت انكشافات البنوك الأوروبية لدى هذا البنك المهدد بالإفلاس ليزيد الأمر سوء ويعمق الأزمة.
مع الإشارة إلى تعرض بنك كردي سويس لحملة كبيرة حول تهم بالفساد وإخفاء أموال من خلال عمليات غسيل أموال لأشخاص مشبوهين.
وما زاد الوضع سوءً تصريح مكتب المدعي المالي في فرنسا يوم الثلاثاء الماضي بأن محققين فرنسيين داهموا خمسة بنوك كبرى، في إطار تحقيق بشأن احتيال ضريبي واسع، حيث قال المكتب في بيان إن نحو 150 محققاً من وزارة المال الفرنسية و16 قاضياً فرنسياً وستة مدعين ألمان أجروا عمليات تفتيش في باريس وحولها، في قضية يشتبه في أنها حرمت السلطات من عائدات ضريبية تزيد عن 100 مليار يورو (108 مليارات دولار)، ما يشير إلى احتمال انتقال الأزمة المصرفية إلى أوروبا أيضاً.
إن كل ما سبق يشير إلى أن الوضع الاقتصادي يتجه نحو حالة من الركود في ظل أزمة مصرفية مالية، وما يدعي إلى عدم الهلع أو إمكانية تشبيه ما يجري بما حصل في الأزمة المالية عام 2008 هو تحرك الحكومات والجهات الرقابية بسرعة في محاولة لتطويق الأزمة الحاصلة.
ولا يعتبر انهيار بنك سيلكون فالي دليل على فشل إجراءات الرقابة المصرفية، ذلك أن متطلبات رأس المال المعتمدة حالياً على مستوى القطاعات المصرفية تعتبر جيدة وخاصة أن الجهات الرقابية في مختلف دول العالم قامت بزيادة هذه المتطلبات بعد أزمة عام 2008 في محاولة لتجنب أية أزمات لاحقة.
إلا أن الأوضاع الاقتصادية الكلية لعبت دوراً هاماً في ظهور هذه الأزمة وانهيار بنك سيلكون فالي، فهل تسطع الجهات المعنية التخفيف من حدة هذه الأزمة ومنع انتشارها وتحولها إلى أزمة مالية واقتصادية عالمية هذا ما ننتظر معرفته في قادم الأيام.